كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {وَما أَكَلَ السَّبُعُ}: يعني وما أكل السبع منه حتى يموت، ومعلوم أن الباقي لم يأكله السبع وهو المحرم، ولكن العرب يسمون ما قتله السبع وأكل منه: أكيلة السبع، فيسمون الباقي منه أكيلة السبع وهو فريسته.
فكل ما تقدم ذكره في الآية مما نهى عنه أريد به الموت، فالميتة أصل في التحريم وما عداها، من الموقوذة، والمتردية، وأكيلة السبع ملحقة بها، وإن لم يمت الحيوان حتف أنفه.
قوله تعالى: {إلاَّ مَا ذَكّيْتُمْ}.
على صورة الاستثناء، ولا يجوز أن يرجع إلى جميع المذكور قبله، لأن الميتة لا يرجع إليها الاستثناء، وكذلك الدم ولحم الخنزير، وإن ذلك لا يجوز أن تلحقه الذكاة، وكذلك قوله: {مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بهِ}، فإنه محمول على المذبوح على أسماء الأصنام، فلا يقال في مثله: إلا ما ذكيتم، فلا رجوع إلى الاستثناء إلا ما قبل المنخنقة، فبقي ما قيل المنخنقة على حكم العموم، ومن قوله المنخنقة إلى موضع الاستثناء، أمكن رد الاستثناء إليه.
فيقال: المنخنقة أو الموقوذة محرمة، إلا ما أدرك زكاته وفيه حياة مستقرة، فإنه يحل بالذكاة.
يبقى أن يقال: إنما يباح ما يباح، أو يحرم ما يحرم بعد الموت، فإذا خنق شاة ثم خلاها وفيها حياة مستقرة، ثم ذبحت بعد ذلك، فلا تسمى منخنقة، وإنما تسمى مذكاة، والمنخنقة هي التي تموت بالخنق فقط، فعلى هذا يحتمل أن يقال: إلا ما ذكيتم، استثناء منقطع بمنزلة قوله: لكن ما ذكيتم، كقوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمانُها إلاَّ قومَ يونس}.
وليس في الكلام المتقدم على الاستثناء ما يقتضي الاستثناء، فإن تقدير الكلام: فهلا كانت القرية آمنت فنفعها ايمانها: أي لينفعها ايمانها عند الله وفي الدنيا، فلا تعلن له بقوم إلا قوم يونس، فإنه ليس رفعًا لشيء مما تقدم، ومعناه: لكن قوم يونس لما آمنوا.
وكذلك قوله تعالى: {طَهَ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى إلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يخْشَى}.
وليس قوله: إلا تذكرة لمن يخشى، رفعًا لشيء من قوله: لتشقى، ولكن معناه: لكن تذكرة لمن يخشى.
ومثله قوله تعالى: {إلاَّ الّذِينَ ظَلَمُوا}.
على بعض الأقوال، وكذلك قوله: {لا يَخَافَ لَدَي المُرْسَلُونَ إلا مَنْ ظَلَمَ}.
ومثله: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إلا المَوْتَةَ الأُولَى}.
ويمكن أن يقال إنه استثنى على بعض الوجوه، وتقديره: حرمنا كل ما قتلتموه، وحرمنا الميتات كلها إلا السمك والجراد، وحرمنا كل دم إلا الكبد والطحال.
فعلى هذا التقدير يستقيم الاستثناء، إلا ما زكيتم، مطلق مصروف إلى ما جعل ذكاة شرعا، وإلا فالعرب لا تفصل في الذكاة بين الموقوذة والمنخنقة، والذكاة بالحديد.
ولا تعرف العرب من الذكاة قطع الحلقوم واللثة وحالة خاصة، فظاهر الحال أنه محال على بيان مقدم.
قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ}: إنما ذكره عقيب ما تقدم، ومعنى استقسام: طلب علم ما قسم له بالأزلام، وإلزام أنفسهم ما يأمرهم به القداح بقسم اليمين.
والاستقسام بالأزلام، أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو غير ذلك من الحاجات، أجال القداح وهي الأزلام وهي ثلاثة أضرب:
منها نهاني ربي.
منها ما نهاني ربي.
ومنها غفل لا كتابة عليه.
فإذا خرج الغفل أجال القداح ثانية.
وهذا إنما نهى اللّه تعالى عنه فيما يتعلق بأمور الغيب، فإنه لا تدري نفس ما يصيبها غدا، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر.
فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الاقراع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل، أن ما قاله الشافعي بناء على الأخبار الصحيحة، ليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام، فإن العتق حكم شرع، فيجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علما على حصول العتق قطعا للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فعلت كذا أو قلت كذا، فذلك يدل في المستقبل على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يجعل خروج الاقراع علما على شيء يتجدد في المستقبل، ويجوز أن يجعل خروج العتق علما على العتق قطعا فظهر افتراق البابين.
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ} الآية (4).
ذكروا في الطيبات قولين:
أحدهما: أنها بمعنى الحلال، وذلك أن ضد الطيب وهو الخبيث، والخبيث حرام، فإذا الطيب هو الحلال، والأصل فيه الاستلذاذ، فيشبه الحلال في انتفاء المضرة منها جميعا.
وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ}، يعني الحلال.
وقال: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ} وهي المحرمات.
وهذا فيه بعد من وجه، فإنه إن كان الطيب بمعنى الحلال، فتقديره:
يسئلونك ماذا أحل لهم، قل أحل لهم الحلال، فيكون معناه، إعادة العبارة عما سألوا عنه من غير زيادة بيان، فيكون بمثابة من يقول: يسئلونك ماذا أحل لهم، قل أحل لهم ما أحل لكم، وهو لا يليق ببيان صاحب الشريعة.
وكذلك في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ} ليس المراد به الحلال فقط.
وكذلك قوله: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ}.
ومعنى الجميع ما يستطاب من المأكولات، ليس أنه التعبير عن نفس الشيء.
وأبان بذلك أنه على مناقضة اليهود الذين أخبر اللّه تعالى عنهم بقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}.
فقال مخبرا عن هذا الدين، إن هذا الدين يحل لهم الطيبات، ويتضمن التسهيل، ودفع الإصر والأغلال التي كانت على المتقدمين.
وهذا حسن بين في إبانة معنى الآية، على خلاف ما قالوه من المعنى الآخر، ولما كان كذلك قال الشافعي:
أبان اللّه تعالى أنه أحل الطيبات، والطباع فيما يستطاب من الأشياء واستخباثها مختلفة، فوجب اعتبار حال فريق من الفرق الذين بعث الرسول إليهم، فإنه صلى اللّه عليه وسلم بعث إلى أمم مختلفة لهمم والأخلاق والطباع، ولا يمكن اعتبار استطابة الأمم على اختلافها، فجعلت العرب الذين هم قوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أصلا، وجعل من عداهم تبعا لهم، فكل ما تستطيبه العرب هو حلال، كالثعلب والضب، وما لا فلا.
فبين الشافعي علة حل لحم الضب، فإن الضب مستطاب عند العرب وإن كان لا تشتهيه نفوس العجم.
فهذا تمام ما أردنا بيانه من هذا المعنى.
وقوله تعالى: {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ}:
اعلم أن في ظاهر الآية وقفة للمتأمل، فإن اللّه تعالى قال: يسئلونك ما ذا أحل لهم- ثم قال في الجواب- قل أحل لكم الطيبات وما علمتم،... فيقتضي أن يكون الحل المسئول عنه متناولا للمعلم من الجوارح المتكلبين، وذلك ليس مذهبا لنا ولا لأحد، فإن الذي يبيح لحم الكلب إن صح ذلك عن مالك، فلا يخصص الإباحة بالمعلم، فقل هذا في الكلام حذف وتقديره: قل أحل لكم الطيبات- ومن جملته- صيد ما علمتم من الجوارح.
ويدل عليه ما روي عن عدي بن حاتم قال: لما سألت رسول اللّه عن صيد الكلب، لم يدر ما يقول حتى نزلت: {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ}.
وذكر بعض من صنف في أحكام القرآن، ما يدل على أن الآية تناولت ما علمنا من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع، إلا ما خصه الدليل وهو الأكل، وهذا في غاية البعد عن الحق.
فإن قول اللّه تعالى: {يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ} لم يتناول السؤال عن وجوه الانتفاع بالأعيان في البياعات والهبات والإجارات، فإنه لو كان كذلك، لم يكن جوابه ذكر الطيبات وما علمتم من الجوارح، ثم يقول في مساق ذلك: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، ولا يتعرض لسائر وجوه الانتفاع، من البيع والهبة.
يدل على ذلك أن السؤال إنما يتناول الأكل فقط، والجواب كان عن ذلك، وكيف ينتظم في الكلام أن يسأل عما ينتفع به من الأشياء، فيذكر في خلال ذلك الكلب بمعنى البيع، وصيد الكلب بمعنى الأكل، وليس جواز البيع في المعلم لكونه معلما، فإن غير المعلم مثله من كلب الحراثة والحراسة وغيرهما.؟
وقوله: {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ}: يقتضي بمطلقه جواز تناول كل ما اصطاده الكلب المعلم لمالكه، وإن لم يجرحه، وهو قول الشافعي.
وقوله تعالى: {مكلبين} مع قوله: {من الجوارح} يتناول الكلب والفهد والصفر، لأن اسم الجوارح يقع على الجميع.
وروي عن علي في بعض السواد أنه قال: لا يصلح ما قتله البزاة، وذلك خلاف الإجماع، واسم الجوارح يقع على كل ما يجرح أو يجترح، أو إن عنى به الكواسب للصيد على أهلها، كالكلاب وسباع الطيور والتي تصطاد وغيرها، وأحدها جارح، وبه سميت الجارحة لأنه يكتسب بها، وقال تعالى: {ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ}: أي ما كسبتم.
ومنه قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ}.
وذلك يدل على جواز الاصطياد لكل ما علم الاصطياد من سائر ذي الناب من السباع، والمخلب من الطير، وقيل في الطير إنها تجرح أو تخلب، وإذا ثبت ذلك فقوله: {مكلبين} أي مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب، والتكليب هو التضرية، يقال كلب يكلب إذا ضرى بالناس، ولا تخصيص في ذلك للكلاب دون غيرها من الجوارح.
وإذا كانت التضرية شاملة وثبت ذلك، فقد صار كثير من الصحابة أي أن الإمساك على المالك المذكور في الآية في قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، هو الانقياد للمالك في الإضراء والارعواء، فإذا لم تهرب منه بعد الاصطياد واحدة فلا يحرم أصلا، وإن أكل منه.
وأبو حنيفة وأصحابه، شرطوا ترك الأكل في الكلب والفهد، ولم يشترطوه في الطيور.
والشافعي مال إلى هذا الفرق في قول، وسوى في ترك الأكل بينهما، وهو القياس.
وإذا تبين ذلك فقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} إن كان المراد به ترك الأكل، ما كان قوله: {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ} متناولا للبازي، ولأجل ذلك قال علي: لا يحل صيد البازي أصلا، فإنه لا يتحقق تعليمه على ترك الأكل.
واعلم أن الظاهر يقتضي أن يكون المراد بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}: أي كلوا مما اصطدن بأمركم وإرسالكم، وكان الاصطياد صادرا عن إعزائكم، ولذلك ذكر الجوارح مطلقا ولم يتهيأ لعاقل أن يقول: إن ترك الأكل دليل على أن الكلب قصد الإمساك للمالك، فإنه لا وقوف على نية الكلب، ولا أن كلبا في العالم ينوي الأخذ للمالك دون نفسه، بل قصده لنفسه تحقيقا.
وقيل: الصيد هو الذكاة، وترك الأكل شرط بعد الموت، ويبعد أن يكون ما بعد الموت شرطا في الذبح.
نعم، إنا نشترط معرفة غاية الانقياد للمالك ومخالفة عادته القديمة، وذلك بأن لا يقدم دون إرسال الصيد، وإن أوقفه وقف، وكأن الذي شرط ترك الأكل، شرط ذلك ليبين به مخالفة عادته وطبعه.